الطيب خليفة
شاعر كردفان
أمنا كردفان خيرك كتير ما أنعدا
ولدك فاتح بابه للضيوف ما انسدا
نحنا أصلنا بالجود و الكرم نتحدا
الدايرنا مرحب، و الرهيف ينقدا
شاب طلق المحيى، هادئ الطبع، يكسوه الوقار، كثير الصمت، أنيق المظهر مع بشاشة و حسن استقبال و إذ جلست إليه علمت أنه شخص دمث الخلق، و مرهف الإحساس، و رقيق المشاعر. كل هذه الصفات أهّلت الطيب خليفة ليكون شاعراً فحلاً و مجيداً لا يشقُ له غبار؛ ملك ناصية البيان و أجاد الوصف و استخدم المفردة بصورة غير مسبوقة للرسم بالكلمات و أيجاد صور فنية في شعره لا تغادر ذاكرة القارئ و المستمع. و هذا الشاعر لم يزل في مقتبل العمر، حيث ولد في قرية \"الحفير\" بالقرب من منطقة \"الضليل\" في ديار المجانين في العام 1973 و ألتحق بالمدرسة الابتدائية في قريته و درس بها حتى الصف الخامس الابتدائي و لم يواصل تعليمه و لكن سعى لتثقيف نفسه عن طريق المطالعة و مجالسة المثقفين والعلماء حتى أصبح عضواً في إتحاد الكتاب السودانيين. بدأ الطيب خليفة نظم القوافي مبكراً، و قد تناول شاعرنا الشاب كل فنون الشعر الشعبي و برع فيها منذ سنٍ مبكرة و تناول مواضيع شعرية شتى منها الغزل و الوصف و المدح و البادية والإبل و أجاد وصف كرد فان حتى صار يلقب\" بشاعر كرد فان\" بكل جدارة و ثقة. و شارك في كثير من المهرجانات و المناسبات الأدبية في الإذاعة السودانية و في برنامج \"شوارد\" الذي يبثه تلفزيون السودان؛ هذا و قد تأثر الطيب بالشاعر الكبير عمر الشيخ محمد ربّاح و هو شارع مطبوع و له دواوين منشورة. يحب الطيب قول الشعر حسب المناسبات، أو إذا سمع قصيدة أعجبته لأحد الشعراء و كثيراً ما يرتجل الشعر فيجيده أيما إجادة. يمتاز شعر الطيب خليفة بجزالة اللفظ و جمال المعنى و دقة التصوير دون تكلفٍ أو اصطناع و هو يجمع بين البداوة و حياة الريف و لذلك تبدو عليه البساطة في التعبير؛ كما أنه ينم عن شاعرية فياضة تجدها في كل قصائده و ذلك يعود لموهبة هذا الشاعر الفذة و مقدرته الفائقة في استخدام المفردات دون إمعان في غريب اللهجة المحلية، بل يميل إلى استخدام مفردات معروفة و لكنه يطوعها لرسم الصورة الفنية بطريقة موحية و مؤثرة. و ربما يلاحظ حبه و تأثره بحياة البادية ووصف مشاهدها و لكنه في ذات الوقت يجيد وصف الطبيعة في كردفان، مع وجود أثر واضح للتعليم على شعره و مفرداته. . وكان مولد أول قصائده عندما رأى حسناء في قرية لم يعرفه فيها أحد و جلس يشاهد تلك الحسناء خلسة و هي ترقص في الحفلة فقال:
العسل مصفى من شفايفك دفّق
و الشعب المشاهد ليكي يهتف و صفّق
يا مولاي بي ريدها و حنانها أتوفق
أمّن خوفي بتومي البريده أترفق
قال الطيب يفخر بقبيلة المجانين عندما حدثت بعض المواقف في المزروب:
نحن الكرم بالحق ورثناه وراثه
و نحن جدودنا أشبال الأسوده شراسه
ولدنا العزة هيله، من قديم ميراثه
ما بتلاقى في الفرس البلولح راسه
و في موقف آخر عندما قام أحد الشباب بدور بطولي، مدحه الطيب بقوله:
يا التلب اللزوم فيك الحُمُول مركوكه
في لعب الصِفاق و الفراغه ما بلقوك
ليك يوماً رجاله صقور ووقفت رُوكه
دايرنك تسوق الطلقه فوق الشوكه
و قال يمدح الشيخ عيسى التجاني عمر قش في حفل أقامه أبناء المجانين تكريماً له عند زيارته للرياض بالمملكة العربية السعودية في عام 2009:
جدك قش تيرابك أصيل الحبا
يا ود كردفان سكنك شمال أب قبا
أبوك قبيل على سلك العروبة أتربا
يا شبل الأسود في الحارة ما بتتخبا
كما فيك خير ما كان الرجال عرفوك
هيلك من عمر تأريخ قديم مملوك
جدك قش زمان فوقه الحمل مركوك
نايبك يا الكلس في الخصيم مشبوك
و يقول في وصف كردفان:
مرحب حباب دار كردفان الهاديه
و مرحبتين حباب أهلك حضر و الباديه
خدارك زيّن الأرض الفجاج مساديه
شال ليها السحاب جاب العين متراديه
أوصاف كردفان عجبتني سرت حالي
أرضك رملة ما شايله الغبار طوالي
خدارك شايفه نوّر في البكان العالي
حبك يا أم رمالاً ناعمه شاغل بالي
يا حليل كردفان و حليل سحابها الدكّن
و الشافك زمان سالن دموعه تبكّن
حليل الناقه كيرها من قفاه مسكّن
جن غزلانها قاطعات العوالي و جكّن
يا كردفان رعدك كِِتِر هَرجانه
جنن للأنيس خوّفها بفيضانه
السحب التحيّن فينا برزم عانه
شبّح فينا كأنه نحن من حيرانه
قال الطيب في وصف البادية و الخريف:
يا بروق الصباح الليله بيتي و قيلي
و بعدما تشحني السحب التحيّن سيلي
زهور وادينا فِرحَت ليها أبقي خميلي
بعدما تحلبي بالليل تاني عبي و شيلي
المزنة التملّت و دحّت
و تحتك فرّ براقاً يلوح يتبحّت
دقق فوقنا خيمته، عينتك صحّت
صواقعك كتّلتْ في البهايم ضحّت
ويقول أيضاً:
حلو البادية في دار كردفان الغرا
يا حليل العرب الديمه ساكنين برا
مسكوا طبايع الجد و التراث بالمرا
رزم ليهم رعد الخريف سحابهم جرا
بشوف السحاب حضن الشمس ما فقّع
و خوّف لينا بالبرد و الصواقع طقّع
أصبح سيله جارف للرهود ما نقّع
و القش البلولح لنداه ما فقّع
كما يصوّر الطيب حال العاشقين مع بداية موسم الخريف بقوله:
الليله الصعيد هبّ و طلق نسامو
وبراق الصباح قلع الهرع قدامو
مايق العين سِهِر و حقن الدموع الهامو
لا هطلت تريّح ولا خلّت الناس نامو
و يودع الطيب الخريف بهذه الأبيات:
ودعنا الخريف ساكن دموعنا تباكن
جمع لسحبه البعيد و تراكن
حزنانه الإبل جضه وحنين يشاكن
فراقك فدَّر البكري أب نوايباً ساكن
فراقك يا الخريف لامن مشني الناقه
و صيدات الخلا مسكتهن الجلاقه
الشدر الكبار جف ونشف عراقه
و للخاطر بعيد حر الضُهُر حرّاقه
وذات يوم وصلت هذه القصيدة إلى شاعرنا الطيب خليفة من الشاعر عمر الشيخ محمد ربّاح:
نجعنا حلالي قبّال السحاب ما يستي
نامن نسمة السافل قربت بشتي
أنا و عاليبو فارقنا أم شلوخاً ستي
واواي الوناقيب ليها شقّ كبدتي
فرد عليه الطيب بمجموعة من الرباعيات التي تتحدث عن رحلة \"النشوق\" قال فيها:
نجعنا حلالي طاردين البروق وسحابا
بعدت غادي من بلد الجفاف وسرابا
وصلت بدري جقله للرهود شرّابا
نايب كيرها يخلف في هديره ربابا
قامت الناقة بي عدل الجبال تهقيتها
رفعت روسها كرفت للهبوب بتقيدها
رمياً بالسلاح حكمت عليه عقيدها
تبت بالعقال بتحن تعزي فقيدها
و يصف الطيب خليفة الإبل بقصائد كثيرة نختار منها ما يلي:
كونيبك حفل و حز سنامك وسرّا
و سمّح شوفك بيهو النفوس تنسرّا
ناويابي النجيع شايفك ركن منصرّه
عيلي و مدي يا أم شطراً بهل ماصرّا
الإبل ديل مخازن ثروه
و الإبل ديل سمحات شوف وحلوات طروى
سمحات في الفواق تحلب تعتّم تروى
ولدهن بلزم الكور و الجراب و الفروه
سيدهن شايل الليل و النهار ما قيّل
نشق بيها الجبال لامن سنامهن ميّل
ما تغريك أوعاك للأمان تتخيّل
يواجهنك شروراً في المحن تتهيّل
الإبل ديل كل واحد تعزيه فقيدها
و اليوم العبوس ماسكاه ليك فوق إيدها
كسّارت الحدود تب ما بتشاور سيدها
رغم اساها مجبورة العرب بترديها
و مما يلاحظ استخدام الشاعر لبعض الألفاظ ذات صلة وثيقة بحياة البادية مثل \" نجعنا\" و \" \" نشقنا\" بمعنى رحلنا بعيدًا عن الديار و هي كلمة تستخدم في معظم الأحوال لوصف الرحلة التي يقوم بها رعاة الإبل مع بداية موسم الخريف إلى المناطق التي ينزل فيها المطر مبكراً و ينبت العشب وهي فترة غاية في الجمال و الروعة لساكني البادية. و من الكلمات أيضاً \" كونيب\" بمعنى السنام و يذكر الطيب بعض الأدوات التي يستخدمها الراكب مثل \" الكور و الجراب و الفروه\" و هي معلومة لدى كثير من الناس في بوادي السودان.
و يطرق الطيب باب الغزل بشيء من الروعة و الرقة و تجود قريحته بقصائد تتميز في مجملها بدقة الوصف و صدق المشاعر نجدها في كثير من أشعاره الغزلية:
زوق و جمال غيرك بيها زول ما تهنا
رنعه و لينه فادعاها الشعر تتنا
كلاماً ليها زي نثر الدرر يا أهلنا
حُسناً كالبدر شال العقول أذهلنا
القصبه الشال سحابك و دكّن
فرّك بقة اللقحة العبسها علكّن
الأماتها من شافنْي جَفَلنْ جَكنّ
كان لاقيتها روحي و روحها مابنفكن
وصفك بي بلاغه بقولو
سنك برق و مضروب الصواقع زولو
عاشقك كان معاه ما ظني يطبق حولو
خليْ لمّنْ أهلك بالزيارة أبولو
قيس بن الملوّح جنّ عقله وراك
إنت الدر سنونك و العسل من فاك
يا ست الحسان و العفة إنتي براك
حني علينا أرعي قلوبنا ماشيه معاك
وبما أن الطيب قد عاش طرفاً من حياته في الغربة فهو يصور لنا في هذه القصائد جانباً من حال المغتربين و ما يجدون من متاعب في بلاد المهجر يقوله:
غايتو المملكة شاهدنا فيها عجايب
الما بلقوا العمل وحدين قريب للصايب
تخصصوا في الورق عرفوا الوقع و الغايب
الليل كله عيل جيب التريس و الشايب
يا دولة فهد الديمة حازم دينك
كم جاسفنا بحارّه و فنينا سنينك
الولد البلعب الضمنا وبجر خمسينك
بورط نفسه ما بقدر يسدد دينك
ولقد كتب الطيب بعض القصائد التي تشبه المسادير و من ذلك قصيدته الموسومة \"مسدار القمرية\" وهو في شكل حوار غاية في الرومانسية بين الشاعر و هذه القمرية و نقتبس منها ما يلي:
بالله يا قمرية الفروع الهاجعه
زولك عاوده النم رجع لمواجعه
كديْ وريني لدار الأهل تان راجعه
ولا الليلة فوق غصن الخمايل ساجعه
بكرة مسافرة من بلد الحبايب غادي
و جوابك رده بجيك فوق ميعادي
لا تلفون لا خبر قطعاً يجيك بالرادي
شنوه الخالك تمشي بعيد وتصبح غادي
أنا الخلاني نبعد غادي يا قميريه
عدم النقدي و النَعَمْ الرحل ضحويه
الجيب خالي و اليوم عادم النقديه
دا الخلاني نفرق تمرتي العجكية
تمرة العجكية تاني ما بتلقاها
بينك و بينها فرقات بعيده مداها
الشوق و الحنين شاوياك من تالاها
بعد أسبوع أكيد بنجيك بطرواها
الأسبوع كتير والله ما منتحمّل
و الشوق جواي حمّل لقوافله وزمّل
بعدما زرعت فرهد وسيده عقبان رمّل
فقد المويه عطشان و الخريف ما كمّل
ولعلنا نلاحظ أن هذا المسدار ليس كفن المسادير التي اشتهرت بها منطقة البطانة وذلك أن أهل البطانة إنما يعنون بالمسدار تلك الرحلة التي يقوم بها الشاعر على ظهر جمله إلى ديار الحبيب.\"فالمسدار يمثل نوعاً معيناً من القصائد الشعبية التي تسير على نمط الرجز الرباعي، وهي شبيهة بالقصائد العربية القديمة ، وتعنى بسرد ومتابعة رحلة الشاعر إلى ديار محبوبته . وقد تكون هذه الرحلة واقعية كما في مسدار \" قوز رجب \" للشاعر\" الصادق حمد الحلال\" ، أو خيالية كما هو الحال في كثير من المسادير . وأحيانا تكون الرحلة مجرد رصد وتتبع لسير الحسان كما في \" مسدار الصيد \" للحاردلو . وفي بعض الأحيان تكون هذه الرحلات زمانية تعنى بتتبع منازل وفصول العام مع ذكر عواطف الشاعر المتأججة ولوعته لفراق محبوبته، ويهتم المسدار برسم خارطة الرحلة وبيان معالم الطرق مع ذكر وتوضيح القرى والأماكن والجبال والوديان التي تقع بين بداية الرحلة ونهايتها .\" إلا أن قصيدة الطيب خليفة هي أشبه ما تكون بحوار رومانسي مع القمرية التي سوف ترحل إلى ديار الحبيب، كما أن هذه القصيدة تستخدم أسلوب الحوار و تمتاز بوحدة الموضوع مع تنوع في القافية وهذا ما يميزها عن المسدار المعروف حسبما أوضحنا في النص أعلاه. و كتب شاعر كردفان أيضاً بعضاً من قصائد \"الجالسة\" و هي نوع من الشعر الشعبي شائع و معروف لدى قبيلة المجانين في دار الريح، و هو لا يقوم على الرباعيات بل يميل إلى الطول قليلاً وله وزن وقافية موحدة وغالباً يعالج موضوع معين و تختلف عن \" التوية\" في طريقة الأداء و اللحن. و هذا مثال على الجالسة من شعر الطيب خليفة:
سماح صُفر البُكار الواردة جقّاده
يا أم قرناً جناح الرويته وجواجه
مضروباً بي ولعاً قسطيرته بعاجه
كفل الحصان التمو عقاده
من الحوش مرق جابو الفريخ قاده
شلاخك بحور الحومرو جلاده
يا سمحه الما برديك الله ما راده
كل هذه القصائد تجعلنا نعتقد أن الطيب خليفة واحد من أميز الشباب في مجال الشعر الشعبي في دار الريح و نتوقع له مستقبلاً باهراً في هذا المجال خاصة أنه شخصية تتواصل مع كل شرائح المجتمع مما يصقل تجربته الشعرية و يكسبه مزيداً من المردود الثقافي خاصة و أنه عضو في إتحاد الأدباء السودانيين وله حضور مميز في أجهزة الإعلام كافة. و نحن يسعدنا أن نقدم شاعر الطيب خليفة بلقب شاعر كردفان لكثرة مال قال في وصفها وذلك يدل على حبه وإخلاصه لها. و نتمنى ألا تعود له القمرية بالرد عاجلاً من ديار الحبيب حتى يظل في حالة من الحنين و الشوق ليتحفنا بمزيد من الشعر الرائع و حلو الكلام.