الأبيض الثانوية محراب العشق في الزمن الجميل
1978 – 1981
عندما يتمطى الزمن يسوق الحنين في أزقة المسافات و يبقى الحنين مسلولاً يلامس أوتار القلوب, والذكريات الجميلة تنهش بمخالبها الوحشية في الحشا, وتبقى المناجاة هي الوتر الوحيد الذي لم ينقطع في قيثارة الزمن الردئ!
أنا وجيلي كنَّا بالعربة رقم 15 هذا إن جاز لنا أن نرقم الدفعات وفقاً لتاريخ تأسيس المدرسة في 1963
محطات عديدة مرَّ بها هذا القطار الميمون قطار الأبيض الثانوية بعرباته الخمسين خاصة المحطات وارفة الظلال في الستينات والسبعينات والتي تجملت صورها بالأسود والأبيض والقمصان الرمادي والبادج على الجيب و"الأردية" الرمادية الغامقة والتي إرتديناها نحن أيضأ لمدة سنتين ثم تحشمنا بالبنطال في السنة الأخيرة, ففي النصف الثاني من السبعينات كنت مع جيلي في زهوة الشباب فمنهم من قضى ومنهم من ينتظر ومنهم من شتى في مناكب الأرض يطلب الرزق الحلال ومنهم من ظل يجاهد ويكابد في بلادي، لكنني أؤكد أننا كنَّا نتنسَّم هواءً كردفانياً رائقاً مع عربتي سنايرنا ثم العربتان اللتان لحقتا بنا من جنايرنا في هذا القطار البديع!
أنا وجيلي عاصرنا جزء من عقد المنظومة الجميلة للمدرسة في عصرها الذهبي من أساتذة وعمال وأحداث, وهنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر أننا تلقينا العلوم الجميلة على أيدي معلمين أجلاء أمثال الأستاذ بشير "سوبرنوفا", الصادق أحياء, آدم كيمياء, هاشم مكي, صالح تاريخ, المرحوم انور فتحي موسى "انجليزي", الضو "إنجليزي", مصطفى بنبر "عربي", البلاع وعبدالله في الفنون, وفي الإدارة المرحوم سيد طه شريف, والمرحوم محمد عبداللطيف, والسني أحمد معروف, وأستاذ محمد مالك "رياضيات" وحمد بكر, والمرحوم محي الدين فارس, والرشيد عبدالرحمن ورزق في اللغة الفرنسية وأمتعنا هذا الثنائي العائد لتوه من باريس بمغامراتهم في الحياة الباريسية ومتعة التجول في جادة الشانزليزيه وكنِّا نسرح معهم بخيالنا في تلك الأضواء والأبيض حينها غارقة في العتمة, كذلك كانت وسائلهم التعليمية العجيبة التي جلبوها معهم من فرنسا في محل إعجابنا, كانا ثنائي رائع!، ومن الأساتذة المصريين الذين درَّسونا أيضاً كان هنالك أستاذ رأفت "فيزيا" الذي كنَّا نشهاهده مرتدياً "برنيطته" في طريقه الى المدرسة منذ أن كنا في المدرسة الشرقية الأولية وهو يشاقق المدرسه الأميرية قبل تسويرها من الركن الجنوبي الغربي الى الركن الالشمال الشرقي ببنطلونه الفضفاض والتي شيرت الكبدي, وانتظرَنا هذا الرجل حتى كبرنا ليعلمنا مما علمه الله ثم غادر السودان بعدها نهائياً, وإنني على يقين أن هذا المصري قد درَّس الكثير من الأجيال التي سبقتنا, كما كان أيضاً هناك استاذ نبيل (نابليون) داهية الرياضيات ورأفت وجميل من الأساتذة المصريين. ولا ننسى هنا عمنا حمد النيل جبريل رئيس العمال بعمامته الأنيقة وجلبابه الناصع وانضباطه المسؤول وهو يقدم تعليماته لفريق عمله ولا بد أن تلحقك زجراته ولغته الصارمة إذا رأى أحداً يخرج عن دائرة الإنضباط والأدب فهو أب للجميع, وهناك أيضاً علامتنان فارقتان لا يستطيع أحد المرور من دون ذكرهما وهم الصول المخضرم العم علي زمام وعمنا المرحوم الصول حسن الذي كنَّا "نفرقع" من الضحك عندما نسمعه يصيح بأعلى صوته في تدريبات الكديت " إرفع كراعك زاوية قائمة 45 درجة" .. ومن الخواجات الذين تعلمنا منهم اللغة الإنجليزية الأسكتلندي قريم "Graham“ وكان استاذ أنور بقول ليه "قِرعم" هذا الشاب الذي كان يدرسنا "بالأسكوتش آكسنت" وكأننا خواجات بنفهم ما يقول!! وقال لي مرةً بأن من الأشياء التي أعجبته هنا في الأبيض "المريسة والعرقي" كان بتاع "بقَّة" شأنه شأن أي خواجة, كذلك الأستاذ ديفيد اوين من ليفربول, وجيف من ويلز.
الأبيض الثانوية محطة إستثنائية في حياة كل من عبرها ولا بد أن تكون بصمتها واضحة في شخصية كل أبناءها من حيث المستوى الأكاديمي أو الثقافي أو الرياضي، وأيضاً لابد من الإشارة الى أهم الأحداث التي عاصرناها في المدرسة أيام حكم مايو البائد وهي تفجير أكبر و أشهر تظاهرة سياسية عبر تاريخ المدرسة وهي مظاهرة نوفمبر 1980 والتي من تداعياتها حرق ونهب شبه كامل لسوق المدينة وحرق الغرفة التجارية بالكامل ودك ونهب زريبة العيش كلياً وحرق سيارات الشرطة و إصابة وإعتقال العشرات من المناضلين, (النهب تم من قبل الشماسة والأطراف الأخرى المغبونة التي إندست في التظاهرة, وكانت أول مرة في حياتنا نشاهد فيها كيف يطلق "البمبان" ونشم رائحته الكريهه وكنَّا نهتف غير عابهين "البمبان سلاح نسوان".
الأبيض الثانوية وشقيقتها الكبرى خورطقت الفيحاء والأبيض الصناعية كانت محور الرعب لمؤسسة الشرطة إذا ما تم التنسيق بينهم للخروج في مظاهرة, فتستبق الشرطة الحدث وتقطع الطريق على وحوش خورطقت قبل ولوجهم المدينة ومن ثم يسهل عليهم محاصرة المدرستان الجارتان لمنعهم من الخروج. هكذا كان الحراك في ظل حكم العسكر البغيض.
الأبيض الثانوية بمعاملها وميادينها وحدائقها وأساتذتها وطلابها كانت "جامعة" إن صح التعبير ترقى لأن تكون أفضل من جويمعات هذا الزمن المسخ!!, وعبر هذه السنون تخرج من هذه المدرسة العريقة أعداد غفيرة من العلماء والسياسيين والمهنيين في شتى المجالات ومنهم من بزغ نجمه في الرياضة والفن والثقافة وغيرها.